الترف والمترفون في القرآن الكريم
نڤێسەر:
ئیمێل: -
صالح شيخو الهسنياني
تمهيد:
(( الترف عامل من أقوى وأسرع وأخبث عوامل التفتت الاجتماعي وانحلال روابط المجتمعات البشرية ، لأن الانغماس في مواقع الشهوات وإشباع الغرائز المنهومة ، يميت الشعور بالنخوة ويقتل الإحساس بالعزة والغيرة ، ويجعل الرذائل من مألوفات الحيات في هذه المجتمعات المنحدرة إلى هاوية الانهيار ، بل يجعل الرذائل ميدان للتنافس الفاجر، فلا يهتم أحد برفع رأسه إنكارا لها بل يجد المجتمع في كبرائه المترفين من ينكر على من ينكر هذه الرذائل، وتصبح الفضائل الخلقية من القيم الروحية غرائب في نظر المجتمع المنحل ، وعندئذ تحقق عليهم كلمة الله ، وتحل بهذا المجتمع عوامل الفناء.
إن سنة الله التي تخضع لسلطانها المجتمعات في مراحل الانحدار والفساد تبين أن هذا الانحدار إلى هاوية الفساد والانهيار يبدأ من تفتت القمة الاجتماعية في الأمم والشعوب، وفساد القمة نذير صارخ بإفساد المجتمع ، وهذا الإفساد إذا وقع لا يخص جانباً أو طائفة ، أن ينصب عاماً شاملاً مغرقاً)) .
وبعد هذا التمهيد للسيد محمد الصادق عرجون. نتطرق إلى معنى الترف والمترف وصفاتهم، وموقف الإسلام من وجود المترفين في المجتمع ، وسنة الله تعالى في هلاك الدول والمجتمعات نتيجة لظهور الترف والمترفين فيها .
1/ معنى الترف:
جاء في لسان العرب معنى (الترف والترفة) مايلي: الترف: التنعم ، والترفّة : النعمة ، والتتريف حسن الغذاء .والترفة: بالضم :الطعام الطيب ، وكل طرفة ترفة. وأترف الرجل: أعطاه شهوته .
وفي مفردات الراغب : الترفة : التوسع في النعمة ، يقال : أترف فلان فهو مترف .
وفي المعجم الوسيط: (( أترف)) فلان: أصر على البغي وفلاناً وسّع عليه.
وفي مختار الصحاح: ((ترف)) (أترفته) النعمة : أطغته .
2/ معنى المترف:
جاء في لسان العرب ، معنى المترف:(الذي أبطرته النعمة وسعة العيش) وقوله تعالى :( إلا قال مترفوها) سبأ/34، أي أولوا الترفة وأراد ورؤساؤها وقادة الشر فيها .
قال قتادة )):هم أغنيائها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر)) .
وقال ابن الجوزي :(( هم المتنعمون الذين أبطرتهم النعمة وسعة العيش ، والمفسرون يقولون: هم الجبارون المسلطون والملوك )) .
ويقول في موضوع أخر هم: )) المنغمسون في ترك أمر الله )) .
ويذكر الماوردي في تفسيره بأن، ( مترفيه ) و (مترفها) ، لها عدة تأويلات منها )): الجبارون أو الرؤساء أو الفساق أو الأغنياء أو ذو النعم والبطر)) .
ويقول سيد قطب هم :((المترفون في كل امة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة ،فينعمون بدعة والراحة وبالسيادة ، حتى نترهل نفوسهم وتأسن ، وترتع في الفسق والمجانة ،وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات ، وتلغ في الأعراض والحرمات )).
ويقول أيضاً )): المترف مترهل ضعيف الإرادة ناعم قليل الرجولة ، لم يعتد الجهد فسقطت همته وفترت أريحته ، والجهد من الجهاد يعطل عليها متاعه الشهواني الرخيص ، ويحرمه لذاته الحيوانية فترة من الوقت ، وهو لا يعرف قيمة في الحياة سوى هذه القيم الداعرة الشائنة )).
3- موقف المترفين من دعوة الرسل ( عليهم الصلاة والسلام) .
1/ الكفر بالرسل :
قال تعالى : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ) سبأ/34 .
يقول ابن الكثير: (( يقول تعالى مسلياً لنبيه (ص) وأمراً له بالتأسي بمن قبله من الرسل ومخبره بأنه ما بعث نبياً في قرية إلا كذبه مترفوها ، وأتبعه ضعفائهم ، كما قال قوم نوح ( عليه الصلاة والسلام )
(قالوا أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون ) الشعراء/ 111.
وقال الكبراء من قوم صالح ( عليه السلام) ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن أمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون ) الأعراف/ 75. وقال تعالى : ( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لينكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ) الأنعام/ 123.
أي لم نبعث في قرية من نبي أو رسول ، إلا قال أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة والرؤساء والقادة والجبابرة ، أن لا نؤمن بما جئت به ولا نتبعه)) .
ويقول الصابوني : (( أي لم (يبعث الله) في أهل قرية رسولاً من الرسل ينذرهم عذاب الله ... إلا قال أهل الغنى والتنعم في الدنيا ، لا نؤمن برسالتكم ولا نصدقكم بما جئتم به )) .
2- الاعتراض على بشرية الرسول :
قال تعالى مخبرا عن رسوله نوح (عليه السلام ) ( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذه إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) المؤمنون/ 33- 34 .
يقول سيد : فالاعتراض (المكرر) هو الاعتراض على بشرية الرسول وهو (( الاعتراض الناشئ من انقطاع الصلة بين قلوب هؤلاء الكبراء المترفين ، وبين النفخة العلوية التي تصل الإنسان بخالقه الكريم)) .
وهذا يبين أن المترفين (قالوا لأتباعهم مضلين لهم : ما هذا الذي يزعم أنه رسول الإنسان يأكل مثلكم ويشرب مثلكم فلا فضل له عليكم لأنه يحتاج إلى الطعام والشراب ، ولئن أطعتموه وصدقتموه فإنكم لخاسرون حقاً حيث أذللتم أنفسكم بأتباعه )) .
أنه العناد والتكبر الذي في نفوسهم ، يمنعهم من سماع الحق وأتباعه ، لأن همهم لا يتجاوز الطعام والشراب والشهوات وهم بذلك عديمو الإحساس والشعور والتفكير ، فان تفكروا ففي أطايب الطعام وأنواع الشراب وفي شهواتهم المريضة ، أي تفكيرهم دنيوي رخيص ، أكل وشراب ، واستهزاء واعتراض على بشرية الرسول.
3- التكذيب بلقاء الآخرة وإنكار البعث والنشور :
قال تعالى معبرا على لسان (الملأ) من قوم نوح عليه السلام :
( أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ) المؤمنون/ 35- 37 .
يقول الصابوني : (( هذا استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد أي أبعدكم بالحياة بعد الموت بعد أن تصبحوا رفاتاً وعظاماً بالية أنكم ستخرجون أحياء من قبوركم ؟... بعد هذا الذي توعدونه من الإخراج من القبور ، وغرضهم بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبداً حياة إلا هذه الحياة الدنيا يموت بعضنا ويلد بعضنا إلى انقراض العصر ولا نشور ، وأن هذا الرسول ما هو إلا كاذب يكذب على الله تعالى فيما جاءكم به من الرسالة)) .
وبين الله سبحانه في موضع أخر أن سبب استحقاق المترفين النار ، هو إنكارهم البعث بعد أن يكونوا تراباً وعظاماً واستبعاد حصول ذلك . لذلك فهم يصرون الكفر بالله تعالى والإغراق في الشهوات والملذات .
وهم مع هذا ينكرون وجود قوة تستطيع إحياء الأجساد الفانية والعظام النخوة للثواب والعقاب ، قال تعالى عن أصحاب الشمال : ( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون ) الواقعة/ 45 – 47 .
4- إتباع الآباء والأجداد :
قال تعالى : ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون ) الزخرف/23 .أي إلا قال المتنعمون فيها الذين أبطرهم النعمة ، وأعمتهم الشهوات والملاهي عن تحمل المشاق في طلب الحق : إنا وجدنا أسلافنا على ملة ودين ، وإنا مقتدون في طريقتهم.
وقال البيضاوي : (( والآية تسلية لرسول الله (ص) ودلالة على أن التقليد في نحو هذا ضلال قديم ، وأسلافهم لم يكن لهم سند منظور يعتد به ، وإنما خصص المترفين بالذكر للشعار بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد الأعمى )) .
والمترفون وجوبهم على دعوة رسل الله أنهم وجدوا آباءهم على ملة ودين ، وأنهم مقتفون أثرهم لا يجيدون عن ذلك ، وهذا من جهلهم ، لأن الباطل لا يتابع وأن الحق أحق أن يتبع ، وهذا التقليد الذميم للباطل القديم الذي كان عليه ألآباء والأجداد من أعظم أسباب التمرد على الحق .
4- خطر المترفين على المجتمع
أولاً : صفات المترفين
1- بطر النعمة : بينا فيما سبق أن الترف هو التنعم بلذات الدنيا ، وأن هذا التنعم لا بد أن يؤدي إلى التجاوز والإسراف ومن ثم إلى بطران النعمة وفي النهاية إلى الهلاك والدمار .
وقال تعالى : ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ) القصص / 58 .
جاء في مفردات الراغب : البطر : دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها ، وصرفها إلى غير وجهها . والبطر : الطرب ، وهو حظة أكثر تعتري من الفرح .
وفي مختار الصحاح : البطر : الأشرار وهو شدة المرح (أبطره) المال .
وفي كلمات القرآن : (بطرت معيشتها ) ، أي طغت وتمردت في أيام حياتها
والمترفون هم أشد الناس بطراً في المعيشة، وهم أكثر الناس تجاوزاً في الإسراف في الملذات والشهوات بحكم مناصبهم وكثرة ما في أيديهم من أموال ، لأن الاستمرار والمداومة على هذه الملذات والتوسع فيها يورث البلادة والغلطة وظلمة في القلب بحيث لا يتسرب إليها نور الإيمان وبالتالي الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف لأجل البقاء على ملذاتهم وملاهيهم ، وقد يتجاوز هذا البطر إلى الفقراء والمستضعفين فيقلدون أهل الترف أما بالتكبر على الحق أو ببطران النعم ، في ملاهيهم ومعيشتهم .
2- الوصول إلى السلطة : يقول الدكتور (عماد الدين خليل ) : (( إن إتاحة المجال لفئة قليلة في أن تمتلك إلى حد الترف بمواجهة كثرة هائلة إلى حد التضور جوعاً مسألة في غاية الخطورة، سيما إذا كانت الفئة المالكة في مراكز السلطة والمسؤولية .. فأما أن يقود الترف إلى السلطة أو أن تقود السلطة إلى الترف ، وهي تنذر بانحرافها عن الموقف الإنساني الاجتماعي المتوازن بشر مستطير وعقاب يستأصل الجذور )).
3- التسلط على رقاب الضعفاء :
قال تعالى : ( وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ) إبراهيم/21 .
هذه الآية تبرز لنا مشهداً من مشاهد يوم القيامة تبين فيها موقف الضعفاء وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم ، الذين استكبروا عن عبادة الله وحده لا شريك له وعن موافقة الرسل ،قالوا (إنكم أي في الدنيا) مهما أمرتمونا إئتمرنا وفعلنا ... فهل تدفعون عنا شيئاً من عذاب الله كما كنتم تعدوننا وتمنوننا . ؟
أما غير الأتباع ، فيقول الأستاذ (محمد قطب) : (( إن الملأ – وهم السادة والكبراء – حينما يتسلطون في رقاب الضعفاء من المؤمنين بماء ينزلونه من التنكيل والتعذيب ، والاضطهاد والتشريد ، فإنهم في الحقيقة يفزعون العبيد ويرهبونهم لئلا ينفلتوا من سلطانهم كما انفلتت تلك القلة المؤمنة .. فلخوف من تنكيل السادة هو أحد العوامل التي تصد المستعبدين عن الإيمان )) .
4- إشاعة الفاحشة :
بما أن الترف يبدأ من فوق، من الطبقة المتنعمة طبقة الخدم والحشم ، طبقة السادة والكبراء ، فالمتاع المترف الطويل والثراء الفاحش (( يغلظ القلوب ، ويفقدها الحساسية ، ويفسد الفطرة ويغشيها؛ فلا ترى دلائل الهداية ، فتستكبر على الهدى وتصر على الباطل ولا تفتح للنور )).
يقول (سيد) في العدالة الاجتماعية : (( فهناك مال فائض؛ وهو طاقة ، وهناك حيوية جد فائضة كذلك . وهي طاقة. وهناك فضلة زمن فائضة بلا عمل ولا تفكير . وهي طاقة ، والفتية المترفون والفتيات المترفات ، وهم يجدون الشباب والفراغ والجاه ، لا بد أن يفسقوا، ولا بد أن يبحثوا عن مصاريف أخرى لطاقة الجسد وطاقة المال وطاقة الوقت ، غالبا ما تكون مصارف تافهة، تأخذ طابعها من الزمن والبيئة ، ولكنها تلتقي عند حد التفاهة والميوعة والقذارة الحسية
والمعنوية .
وفي الجانب الآخر المستغلون والمسترجون والمحتاجون من تجارة الرقيق، والمهرجون، والذيول، وحواشي المترفين ، فينشرون الدعارة والترهل، ويرخصون كل قيم الحياة الجادة، التي لا تروق للمترفين والمترفات. ثم يسري الداء إلى سائر مرافق الحياة... ثم تكون العاقبة التي لا بد منها وهي شيوع الفاحشة في الأمة، وانتشار الإباحية، وترهل الأجسام والعقول، وانحطاط المعنويات والروحيات )) .
5- الطغيان بحب الدنيا :
قال تعالى : ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم وأتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ) هود/ 116 .
أي (( واتبع أولئك الظلمة شهواتهم، وما نعموا به من الاشتغال بالمال واللذات وأثروها على الآخرة، وكانوا قوماً مصرين على الإجرام ))
ويقول الشيخ محمد محمود حجازي : (( واتبع الذين ظلموا : الأكثرية الكثيرة في تلك الأمم ما أترفوا فيه، من نعمة وعافية ودولة وسلطان، فكانت الأكثرية لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر ، ولكنهم عقدوا عزمهم على إتباع الشهوات، وساروا وراء ما فيه من التنعم والترف من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهنيء ورفضوا ما وراء ذلك، ونبذوه ظهرياً. وكانوا مجرمين.
ومن هنا يعلم (يقول الشيخ حجازي) أن الترف هو الذي يدعو إلى السرف المفضي إلى الفسوق والعصيان والظلم والإجرام، ويظهر هذا في الكبار الموسرين ثم ينتقل إلى الفقراء المعوزين فتسوء حال الأمم وتتدهور أخلاقها )) .
6- طول إلامل :
المترفون لهم حياتهم الدنيوية واليوم الذي يعيشونه، ولاشك أن الانغماس في الشهوات والملذات ينسي الآخرة وأهوالها، والموت وسكراته، ويظن المترف بأن الدنيا ما وجدت إلا للمتاع الذي هو فيها، ويظن أيضاً أنه سوف يعيش أجالا ويحقق أمالا .
قال تعالى : ( الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ) المؤمنون/33
وقال : ( فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ) الأنبياء/12-13 .
حب الدنيا وطول الأمل فيها والانغماس في المتاع أنساهم الآخرة، حتى فاجأهم أمر الله تعالى،فإذا هم يركضون تاركين وراءهم متاعهم ومساكنهم المريحة خوفاً من أمر الله تعالى . عند ذاك يعلمون بأنهم كانوا خاطئين .
7- التكبر والتباهي :
قال تعالى : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولاداً وما نحن بمعذبين ) سبأ / 34 – 35 .
يبين الله سبحانه في هذه الآية موقف المترفين من الرسل وإتباع الرسل ، بالتكبر والتباهي عليهم تارة بالأموال وتارة بالأولاد .
يقول (القرطبي) في تفسير هذه الآية : (( فضلنا عليكم بالأموال والأولاد ، ولو لم يكن ربكم راضياً بما نحن عليه من الدين والفضل لم يخولنا ذلك، وما نحن بمعذبين لأن من أحسن إليه فلا يعذبه )) .
ويقول ( الصابوني) : (( أي أن الله لا يعذبنا لأنه راض عنا ، ولو لم يكن راضيا عنا لما بسط لنا في الرزق، ، قاسوا أمر الدنيا على الآخرة، وظنوا أن الله كما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبهم في الآخرة )) .
والمترفون كما يقول (سيد قطب ) : (( تخدعهم القيم الزائفة والنعيم الزائل ، وغرهم ما هم فيه من ثراء وقوة ، فيحسبونه ما نعهم من عذاب الله ، ويخالون أنه أية للرضا عنهم، أو أنهم في مكان أعلى من الحساب والجزاء)).
5- موقف الإسلام من الترف :
أولاً : وظيفة المال في الإسلام :
يبين القرآن الكريم بأن كل ما في السموات وفي الأرض هو ملك لله تعالى : ( ولله ملك السماوات والأرض ) أل عمران : 189، وهو الذي يرزق الجميع : ( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ) فاطر /3.
والمال هو ملك لله تعالى، أما الإنسان فدوره يقتضي الإشراف على ما في يديه من المال الذي رزقه الله سبحانه ، ويصرفه في أوجه الخير والصلاح ، فالمال ليس ماله حقاً، وما هو منه إلا بمنزلة المستخلف. قال الله : ( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) ص:7، أي جعلكم خلفاء في التصريف فيه من غير أن تملكوه ملكاً حقاً، فان الملكية هنا ملكية انتفاع ليس إلا .
يقول ًسيد قطبً : ( لقد ًيغدقً الله على أهل الشر استدراجاً لهم ليزدادوا سوءاً وبطراً وفساداً ، ويتضاعف رصيدهم من الإثم والجريمة، ثم يأخذهم في الدنيا أو في الآخرة _ وفق حكمته وتقديره _ بهذا الرصيد الأثيم ، وقد يحرمهم فيزدادوا شراً وفسوقاً وجريمة ، وجزعاً وضيقاً، ويأسا من رحمة الله ، وينتهوا بهذا إلى مضاعفة سيدهم من الشر والضلال .
ولقد يغدق الله على أهل الخير ، ليمكنهم من أعمال صالحة كثيرة ما كانوا بالغيها لو لم يبسط لهم في الرزق، ليشكروا نعمة الله عليهم بالقلب واللسان والفعل الجميل، ويدخلوا بهذا كله رصيداً من الحسنات يستحقونه عند الله بصلاحهم وبما يعلمه من الخير في قلوبهم . وقد يحرمهم فيبلوا صبرهم على الحرمان ، وثقتهم بربهم، ورجاءهم فيه ، واطمئنانهم إلى قدره، ورضاهم بربهم وحده ، وهو خير وأبقى ، بهذا إلى مضاعفة رصيدهم من الخير والرضوان ) .
ولإنفاق المال في خير الأمة مجالات عدة منها :
1- للإنفاق في سبيل الله ، ومنها الزكاة والصدقات، وليعلم الغني أن للفقير سهماً في ماله.
2- الإنفاق على أهله ومن تحت رعايته بدون إسراف ولا تبذير ولا تقتير.
3- قضاء حوائج الناس- كالديون أوفك أسير أو زواج شاب، أو ما شابه ذلك من حوائج المسلمين .
4- المساهمة في المشاريع الخيرية كبناء مسجد أو تبليط طريق أو بناء مستشفى أو حفر بئر.
5- أداء فريضة الحج إن أمكن ذلك.
6- ترك الشح وتمرين النفس على الجهاد بالمال .
7- رعاية وكفالة الأيتام.
8- وقف بعض المال للمشاريع الخيرية مثل: الإغاثة المستعجلة وخاصة أثناء الكوارث والحروب
9- استثمار المال استثماراً حلالا في المعامل والمصانع ، أو في أي من أنواع التجارة ،لتشغيل المحتاجين والمعوزين.
10- المساهمة في نشر الدعوة إلى الله كفتح إذاعات ومحطات تلفزيونية وفضائية، أو في توزيع أشرطة الكاسيتً والأقراص الليزرية والكتاب النافع، أو في أي مجال أخر .. وفقاً للشريعة ومنهاجها..
ثانياً: الإسلام يحث على التنظيم الاقتصادي والاجتماعي :
الإسلام دين العدل، ودين التكافل الاقتصادي والاجتماعي ؛ حيث وضع أسس وقواعد تحدد وتنظم بموجبه عملية جمع وصرف المال، لكي ينتفع به الجميع ، دون طبقة قليلة من الناس وحرمان الأكثرية من الانتفاع به.
قال تعالى : ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) الحشر:7، أي لئلا ينتفع بهذا المال ويستأثر به الأغنياء دون الفقراء، مع شدة حاجة الفقراء للمال .
قال القرطبي : ( لكيلا يتقاسمه الرؤساء والأغنياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه – وهو المرباع – ثم يصطفي منها أيضاً ما يشاء)
ويقول سيد قطب : ( إن هذه الآية تضع قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الاقتصادي
والاجتماعي في المجتمع الإسلامي : (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) ؛ قاعدة التنظيم الاقتصادي ،تمثل جانباً كبيراً من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام؛ فالملكية الفردية معترف بها في هذه النظرية، ولكنها محددة بهذه القاعدة. قاعدة إلا يكون المال دولة بين الأغنياء ، ممنوعاً من التداول بين الفقراء. فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية ، كما يخالف هدفاً من أهداف تنظيم الاجتماعي كله. وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تنشئ مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد .
ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة ؛ ففرض الزكاة ، وجعل حصيلتها في العام اثنتين ونصف في المائة من أصل رؤوس الأموال النقدية ، وعشرة أو خمسة في المائة من جميع الحاصلات . وما يعادل ذلك من الأنعام ، وجعل الحصيلة في الركز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي ، وهي نسب كبيرة، ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين- فقراء وأغنياء – بينما جعل الفيء كله للفقراء. ثم جعل نظامه المختار في إيجاد الأرض هو المزارعة أي المشارطة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزراعها . وجعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء . وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال. وحرم الاحتكار، وحظر الربا . وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء .
ثالثاً: الإسلام لا يسمح بوجود المترفين في المجتمع :
الترف داء معد حين لا يعالج وتمنع أسبابه فانه يسري في المجتمع سريان النار في الهشيم ، ويصبح عندها عادة مألوفة وطريقة متبعة تهبط بالمجتمع إلى درجات الذل والهوان ، ويصبح الفسق والفساد مقياس الرجولة والشهامة في الطبقة المترفة .
( وحين تفسد طبائع المترفين ، ويتمادى الضالون في ضلالهم، والمنحرفون في انحرافهم، والفاسدون في فسادهم. وحين يعيش هؤلاء في مستنقعات الغرور والاستكبار، في مواخير الشرك والكفر والضلال والفساد ، ويألفون هذا العيش المريض ؛ يتطبعون عليه ، بل تصبح هذه الحياة قطعة من وجودهم ، لا يرضون بغيرها بديلاً ، ولا يستطيعون منها فكاكاً أو خلاصاً ؛ فلا يسلك هؤلاء الطريق الصحيح ، ولا يتحولون عن النهج الذي ألفوه والعقيدة التي ساروا عليها .. ( وحين) يتمادى هؤلاء في غيهم وضلالهم ، (و) حين يعكفون على حياتهم الفاجرة ، يسرحون ويمرحون ويفسدون في الأرض ، وينشرون الفاحشة ، ويشيعون الرذيلة، من غير أن يأخذ أحد على أيديهم، أو ينكروا عليهم ضلالتهم وأهواءهم ؛ وتسير الأمة في هذا الخط المعوج ، والسبيل المنحرف ؛
فيوصلها إلى الهلاك والدمار ؛ إذ تتحلل الأمة من القيم الفاضلة ، وتفقد عناصر قوتها وبقاءها ، فتذهب غير مأسوف عليها .
ونقرأ في كتاب العدالة لاجتماعية : (( إن وجود المترفين في الجماعة، وسماح الجماعة بوجودهم ، وسكوتها عليهم ، وقعودها عن إزالة أسباب الترف ، وتركها المترفين يفسدون .. كل ذلك أسباب تؤدي إلى الهلاك والتدمير بطبيعة وجودها )). : (( فالمتاع المترف الطويل الموروث عن الآباء ينسي الذكر ويؤدي إلى الجدب والضحالة .. ( ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بورا ) الفرقان:18 فالأرض البور هي الأرض المجدبة التي لا تنتج ولا تنمر، وكذلك قلوبهم ونفوسهم وحياتهم مجدبة بائرة صلدة، لا تنبض فيها حياة .
وقد روي أن الرسول (ص) سمى بيوت المترفين بيوت الشياطين ، لما ينبع فيها من الفساد ، ولما يخرج منها من الفتنة قال : ((تكون ابل للشياطين وبيوت للشياطين فأما ابل الشياطين فقد رأيتها يخرج أحدكم بجنيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيراً منها ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله وأما بيوت الشياطين فلم أرها كان سعيد يقول لا أراها إلا هذه الأقفاص التي يستر الناس بالديباج )) رواه أبو داود رقم:2205 .
فالذي نستخلصه ( والقول لسيد) من هذا أن مستوى المعيشة العام للجماعة هو الذي يحدد الترف والحرمان. وحين فتح الله الأمصار على المسلمين، وازدادت الثروة العامة، وارتفع مستوى المعيشة ؛ تغيرت أزياؤهم، واستمتعوا بما لم يكونوا يستمتعون ، فلم ينكر ذلك عليهم أحد. إلا أن يتجاوز الوسط. والنبي(ص) يقول : ( كلوا وأشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة وقال ابن عباس كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة )) رواه البخاري كتاب : اللباس باب قول الله تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ) الأعراف : 32 .
ان البساطة في الحياة هي طابع الإسلام الذي يحرص عليه ، وان استعلاء النفس على المتاع هو السمة التي يريدها الإسلام لأهله ؛ فلا يصبحون عبيداً لهذا المتاع .
(( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ان أعطي رضي وان لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش )) رواه البخاري رقم : 2673.
فالاستعلاء على المتاع مع مزاولة الوسط هو طابع الإسلام ؛ والقلب المسلم يتذوق ويدرك متى يقف عند حد الوسط .
خامساً : مشهد المترف يوم القيامة :
قال تعالى : ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها
يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين ) الأنبياء/ 11-15 .
جاء في زاد المسير عن معنى قوله تعالى: ( لا تركضوا) : ( هذا قول الملائكة لهم ، وأرجعوا إلى نعمكم التي أترفتكم ، وهذا توبيخ لهم ) .
والمراد أنهم يهربون ويسرعون من شدة العذاب وهوله ، وهم كذلك يأتيهم صوت يقول لهم : ارجعوا إلى نعمكم ومتاعكم التي كانت سبب بطركم في الحياة الدنيا ، ولكنهم يفاجئون بالعذاب ينتظرهم حتى جعلهم الله حصيداً خامدين كالزرع المحصود الذي لا حياة فيه .
وجاء في ظلال القرآن : (( والقصم أشد أنواع القطع .. ويلقي ظل الشدة والصغار والتحطيم والقضاء الحاسم على القرى التي كانت ظالمة ؛ فإذا هي مدمرة محطمة.. لا تركضوا من قريتكم، وعودوا إلى متاعكم الهنيء وعيشكم الرغيد ومسكنكم المريح ، عودوا لعلكم تسألون عن ذلك كله فيم أنفقتموه؟ عند ذلك يفيقون فيشعرون بأن لا مفر ولا مهرب من بأس الله المحيط . وأنه لا ينفعهم ركض، ولا ينقذهم فرار ؛ فيحاولون الاعتراف والتوبة والاستغفار:
( قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين ) .
وفي أية أخرى يقول الله تعالى: ( حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ) المؤمنون: 64 – 65.
يقول الشيخ محمد محمود حجازي : (( قيل أن هذا الكلام كله في الكفار ، ولاشك أنهم في غمرة وحيرة وضلال ... حتى إذا أخذنا مترفيهم وأغنياءهم بالعذاب يوم القيامة إذا هم يجأرون ويستغيثون رافعين صوتهم لشدة ما هم فيه . ويقال لهم على سبيل التبكيت والتأنيب : لا تجأروا اليوم ، إنكم منا لا تنصرون ، ويومئذ هم في العذاب محضرون ، ولا هم ينصرون ، فانظروا إليهم وقد وصلت حالتهم إلى ما وصلت إليه من الحسرة والندامة ، وهذا كالباعث لهم على ترك الكفر والجهل ) .
فإذا هم يرفعون أصواتهم بالجؤار، مستغيثين مسترحمين ، وذلك في مقابل الترف والغفلة والاستكبار والغرور ، ثم هاهم أولاء يتلقون الزجر والتأنيب : (لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ) .
وفي مقارب( إذا هم يجأرون) يقول المارودي أنه فيه أربع تأويلات :
أحدها: يجزعون. الثاني: يستغيثون. الثالث: يصيحون.
الرابع:/يصرخون إلى الله تعالى بالتوبة فلا يقبل لهم .
6- الترف و هلاك المجتمعات :
أولا : سنة الله تعالى في هلاك المترفين والمجتمع الذي يتواجدون فيه :
إن إتاحة المجال لظهور المترفين في المجتمع وازدياد عددهم مؤشر خطير لبدء نزول العذاب أو الهلاك، أو الوصول إلى النهاية التي لا يؤسف عليها. وذلك لان التناقض الخطير بين فئة مترفة حاكمة تملك كل شيء، وكثرة معدمة مظلومة لا تملك شيئاً ؛ إن هذا التناقض مخالف لجوهر الحق والعدل اللذين تقوم عليهما بنية السماوات والأرض .
إن الترف ممارسة مدمرة سواء للجهة كلها التي تسكت عليها وتغض عنها الطرف، أو تغلو في انهزاميتها فتتملق وتتقرب وتداهن، أو للمترفين أنفسهم الذين يعمي الثراء الفاحش – وما ينبثق عنه من ممارسة مرضية متضخمة مبالغ فيها – بصائرهم ، ويطمس على أرواحهم، ويسحق كل إحساس أخلاقي أصيل في نفوسهم، ويحجب عنهم – وهذا هو الأهم والأخطر – كل رؤية حقه لدور الإنسان في الدنيا ،وموقفه في الكون ، وطبيعة العلاقات المتبادلة بين عالمي الحضور والغياب ، المادة والروح ، والطبيعة ً الخلقً وما وراء الطبيعة ً الغيبً ، والأرض والسماء ؛ فبما أكسب الترف نفوسهم وحسهم من خشونة وثقل وغلاطة ثقلوا فهبطوا فانقطعوا عن كل رؤية بعيدة أو إيمان جاد يتجاوز بهم عالم الحضور إلى الغيب، والمادة إلى الروح، والخلق الظاهر إلى ما وراءه من الغيب، والأرض إلى السماء ، والعلاقات المنفعية إلى المواقع الأخلاقية التي يتميز بها بنو أدم عن عالم النحل والنمل والحيوان.
بينا فيما سبق بأن الإسلام لا يسمح بوجود المترفين ، ويحارب كل وسيلة تؤدي بصاحبها إلى الترف، ويندد كذلك :( بالجماعة التي لا تتحرك لوقف الجريمة عند حدها ، وبالجماهير وهي تنظر إلى قلة من طغاتها تمارس المنكر فلا ترفع يداً ولا تنطق بكلمة ، وبالناس الذي يرون رأي العين الدمار الذي يقودهم صوب النهاية المحتومة ، بسبب ما يمارس بين ظهرانيهم من فساد ؛ فلا يتجمعون للمجابهة أو الإصلاح قبل فوات الأوان ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم وأتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) هود: 116- 117 .
وتبقى سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير تعمل عملها في حركة التأريخ، وتتخذ من المترفين أداة تسوق بها القرى والدول والجماعات والأمم نحو مصائرها المفجعة .
ثانياً: ساعة الهلاك:
يقول الدكتور عماد الدين خليل عن ساعة هلاك المجتمعات أنه : (( على مستوى القيادة يحدثنا القرآن أن ساعة السقوط تحين يوم يتسنم المسؤولية حفنة من المترفين أو الإداريين الظلمة أو المجرمين الطغاة ؛ فيمارسون من مواقع السلطة تلك كل أسلوب من شأنه أن يؤدي إلى إلحاق التفكك والدمار بالجماعة أو الأمة التي ارتضتهم قادة لها: الترف، الفسوق، الطغيان، الفوضى، الاستغلال ، المكر،رفض الدعوات الجديدة، واستخدام أقصى درجات القسوة والطيش لصد قوتهم عن الانتماء إليها، واعتبار مبادئهم ورؤاهم وتشريعاتهم الذاتية القاصرة المفككة الحدود النهائية لموقف الإنسان في العالم ؛ وهو اعتبار يقوم على أقصى درجات الطغيان وأشد المواقف بعداً عن مفهوم التوحيد العادل.
وأبلغ ما في البيان القرآني بتقريب الأستاذ عماد الدين أنه يصور هؤلاء الطواغيت وهم في قمة الجاه والثروة والسلطان، أدوات بيد الله ، يسخرهم من حيث لا يدرون، لإنزال عقابه العادل على طرفي الجريمة. السلطة التي تظلم والقاعدة التي ترضى بالظلم)).
قال تعالى : (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ) الإسراء:16 .
يقول المارودي في تفسيره ، في قوله: (وإذا أردنا أن نهلك قرية ) ثلاثة أقاويل :
أحدها: معناه إذا أردنا أن نحكم بهلاك قرية .
والثاني: معناه وإذا أهلكنا قرية .
والثالث: أنه أراد بهلاك القرية فناء خيارها وبقاء شرارها .
ويقول ابن الجوزي في زاد المسير في سبب إرادته لذلك قولان :
أحدهما: ما سبق لهم في قضائه من الشقاء. والثاني: عنادهم للأنبياء وتكذيبهم إياهم.
وقوله تعالى( أمرنا مترفيها)، وفيها ثلاثة أموال :
أحدها: أنه من الأمر .. تقديره أمرنا مترفيها بالطاعة ، ففسقوا.
والثاني: (كثرنا) .
والثالث: أن معنى (أمرنا) ، (أمرنا) ، والمعنى (سلطنا) مترفيها بالإمارة .
ويقول البيضاوي في تفسير هذه الآية : ( وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم لإنفاذ قضائنا السابق، أو دنا وقته المقدر ..(أمرنا مترفيها) متنعميها بالطاعة على لسان رسول بعثتاه إليهم، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده ، فان الفسق هو الخروج عن الطاعة والتمرد في العصيان، فيدل على
الطاعة من طريق المقابلة . وقيل تخصيص المترفين لأن غيرهم يتبعهم، ولأنهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور ( فحق عليها القول) يعني كلمة العذاب السابقة لحلوله، أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم في المعاصي.. (فدمرناها تدميراً) أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارهم).
ويقول الشيخ (محمد محمود حجازي) : (( وإذا أردنا أن نهلك قرية من القرى، وقد دنا وقت إهلاك أهلها، ولم يبق من زمان إمهالها إلا قليل – أمرنا مترفيها – بالطاعات ففسقوا عن أمر ربهم ، وخرجوا عن طاعته. والأمر للجميع مترفاً أو كان غير مترف ، وغنياً كان أو فقيراً، ولكن لما كان الأمراء والأغنياء هم القاعدة وغيرهم يتبع، والعامة شأنها التقليد دائماً، قيل أمرنا المترفين الأغنياء حتى كان الفقراء غير مأمورين )
ويقول سيد قطب في تفسير الآية: ((فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك ، فكثر فيها المترفون، فلم تدافعهم، ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها ، فعم فيها الفسق، فتحللت وترهلت، فحقت عليها سنة الله، وأصابها الدمار والهلاك،وهي المسئولية عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين ، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليا، ففسقوا ، ولو يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك .
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف، وسنناً لا تتبدل،وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته . والله لا يأمر بالفسق، لأن الله لا يأمر بالفحشاء .لكن وجود المترفين في ذاته، دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال ، وأن قدر الله سيصيبها جزاءً وفاقاً. وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة)).
ثالثاً: تفسير ابن خلدون لسقوط الدول وانهيار الحضارات:
يقول ابن خلدون في مقدمته : (( إن سبب تلاشي الدول والمجتمعات هو أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها، والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف كثر التناسل والولد والعمومية ؛ فكثرت العصابة به ، واستكثروا أيضاً من الموالي والصنائع، وربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم والحرفة فازدادوا به عدداً إلى عددهم وقوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدو، فإذا ذهب الجيل إلاول والثاني وأخذت الدولة في الهرم لم تستغل أولئك الصنائع والموالي بأنفسهم في تأسيس الدولة وتمهيد ملكها ، لأنهم ليس لهم من الأمر شيء، إنما كانوا عيالا على أهلها ومعونة لها، فإذا ذهب الأصل لم يستقل لفرع بالرسخ ؛ فيذهب ويتلاشى ، ولا تبقى الدولة على حالها من القوة )) .
ويقول أيضاً : ( بأن الحضارة تمر في ثلاثة أطوار: وهي طور البداوة ، ثم طور التحضر ، ثم طور التدهور الذي يؤدي إلى السقوط ؛ فيقول إن طور التدهور ، يأتي من نهاية التحضر ، بعد مرحلة الازدهار ، ووصول الناس إلى مرحلة الانغماس في الترف ، والتحلل في الأخلاق ، وتغير العادات إلى المناكر ، والتواضع عليها ) .. ويرى ابن خلدون أن وراحل التحضر هي ذاتها عوامل تدهورها ؛ ذلك أن الحضارة وان كانت غاية العمران فهي في الوقت نفسه مؤذن بنهاية عمره .
وأول هذه العوامل هو العصبية الذي تتسم بها الرياسة والملك ، ولكن صاحب الرياسة يطلب بطبعه الانفراد بالملك والمجد ، والطبيعة الحيوانية تدفعه إلى الكبر والأنفة ، فيأنف من أن يشاركه أهل عصبيته فيدفعهم عن ملكه ،ويأخذهم بالقتل والاهانة، وسلب النعمة، حتى يصبحوا بعض أعدائه، وطبيعة التأله في الملوك تدفعهم إلى الاستئثار ؛ إذ لا تكون الرياسة إلا بالانفراد ؛ فيجدع أنوف عشيرته ، وذوي قرباه لينفرد بالملك والمجد ما استطاع ، ويعاني الملك في ذلك بأشد ما عانى في إقامة الملك ؛ لأنه كان يدفع الأجانب ، وكان ظهراؤه على ذلك أهل العصبية جميعهم ، أما حين الانفراد بالملك فهو يدافع الأقارب مستعيناً بالأباعد فيركب صعباً من الأمر، انه أمر في طبائع البشر لا بد منه في كل الملوك .
على أن العامل الحاسم في ضعف الدولة هو الترف ؛ انه إذا كان قد زاد من قوة الدولة في أولها ، فأنه أشد العوامل أثراً في ضعفها وانهيارها . ويفسر ابن خلدون ذلك بأسباب اقتصادية وأخلاقية ونفسية .
أما السبب الاقتصادي : فان طبيعة الملك تقتضي الترف حيث النزوع إلى رقة الأحوال في المطعم والملبس والفرش والآنية ، وحيث تشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة، وحيث إجازة الوفود من أشرف الأمم ووجود القبائل ، مع التوسعة في الأعطيات على الصناع والموالي ، وإدرار الأرزاق على الجند ، ويزيد الانغماس في الترف لا من جانب السلطان وبطانته فحسب ، بل من جانب الرعية أيضا ؛ إذ الناس على دين ملوكهم .
أما السبب الأخلاقي النفسي الذي يجعل الترف معول هدم يؤدي إلى انهيار الدولة ، فمبعثه في رأي ابن خلدون ما يلزم عن الترف من فساد الخلق ، فان عوائد الترف تؤدي إلى العكوف على الشهوات وكثير من مذمومات الخلق ، فتذهب عن أهل الحضر طبائع الحشمة ، ويقذعون في أقوال الفحشاء ، فضلاً عن أن الترف يذهب خشونة البداوة ، ويضعف العصبية والبسلة ، حتى إذا انغمسوا في النعيم أصبحوا عيالا على الدولة ، كأنهم من جملة النسوان والولدان المحتاجين إلى المدافعة عنهم ، فالترف مفسد لبأس الفرد ولشيمة الدولة ، والترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الفساد والسفه ، والترف مظهر الحياة والسكون والدعة ، ودليل ميل النفس إلى الدنيا والتكالب على تحصيل متاعها حتى يتفشى الخلاف والتحاسد ، ويفت ذلك في التعاضد والتعاون ، ويفضي إلى المنازعة ونهاية الدولة )) .. ولا شك أن تفسير ابن خلدون هو تفسير وصفي للدول التي قامت على العصبية والملك والتوارث أكثر من قيامها على الشورى والأخوة الإيمانية وتكوين الرجال على القرآن وتعليمهم الصبر على فتنة السراء والنعمة ؛ وهو يرى أن الدولة النبوية والراشدية لا يمكن أن تعود مثيلاتها لقيامها على الخوارق ، مع أنه يمكن مقاربتها منهاجياً والاستهداء بالقرآن واستقراء الواقع التاريخي في عوامل سقوط الأمم والحضارات لزيادة عمر الدولة ، والحيلولة دون سقوطها المبكر .. كم أن ما سماه ابن خلدون الخوارق هي آيات من التأييد والمدد والتوفيق والنصر والفتح والبقاء والتمكن لمن يتقي الله في تأسيسه ومحافظته للدولة والمدينة.. وقد درس د.محمد عابد الجابري على علمانيته ابن خلدون وهو مغاربي في كتابه فكر ابن خلدون.. العصبية والدولة ، وتوصل إلى مستخلصات نافعة.. كما يمكن الانتفاع بما كتبه د.عبد الحليم عويس في ما كتبه عن علم تفسير التأريخ،وكتابه في أسباب سقوط 30 من الدول المسلمة ، ود.عماد الدين خليل ، ومظهر الدين صديقي: ود.حسن مؤنس: ود.الصلابي وغيرهم من الذين كتبوا عن عوامل التمكن والبقاء.. وأسباب السقوط والزوال..كما بينا راشد الغنوشي إن ما ذهب إليه ابن خلدون من إن إقامة الدين لا تكون بمجرد الشعور لا ديني والتقوى والتزكية والغيرة بدون تقدير الواقع وفقهه أو ما سماه بالعصبية الذي يحسن استبدالها بالقوة القبيلة أو أي رابطة تقوم على الإعداد بمستوى العصر هو الحق، لذلك يقول عن آثار المحاولات المتعثرة التاريخية لهذا العمل الذي :
(طاش فيها ميزان الرشد أهدرت دماء وأموال وجهود بسبب تبسيط المعقد واستسهال الصعب )..
(59)- مسيرة الصحوة الإسلامية،راشد الغنوشي، ص129،مركز الراية للتمنية الفكرية،دمشق،ط1، 2005.
ملاحظة: نشر هذا البحث كاملا في مجلة الإيمان (اربيل) في العدد (14 -15) لسنة: 2003 والقسم الثاني في العدد (25) لسنة: 2005).